فشل أمريكا في أفغانستان , بين العقيدة والصراعات الجيوسياسية
التاريخ يعيد نفسه
عندما انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان في أغسطس 2021، تاركةً وراءها مشهداً من الفوضى والدمار، كان العالم يتذكر نهاية أخرى مشابهة: سقوط سايغون عام 1975. فيتنام وأفغانستان، حربان مختلفتان في الزمان والمكان، لكنهما تشتركان في سردية واحدة: فشل القوة العظمى في تحقيق أهدافها، وتحوّل التدخل العسكري إلى مأساة إنسانية واقتصادية. أمريكا، التي تدّعي أنها "شرطي العالم"، أثبتت مرة أخرى أن قوتها العسكرية الهائلة لا تكفي لفرض إرادتها على شعوب ترفض الخضوع.
التشابه بين فيتنام وأفغانستان: دروس لم تُستوعب
في فيتنام، دخلت أمريكا الحرب بدعوى وقف المد الشيوعي، لكنها انتهت بهزيمة مذلة بعد أن فقدت أكثر من 58 ألف جندي. في أفغانستان، دخلت واشنطن بحجة الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، لكنها خرجت بعد 20 عاماً تاركةً البلاد في أيدي طالبان، نفس الحركة التي حاربتها. في الحالتين، فشلت أمريكا في فهم طبيعة الصراع: حرب عصابات تعتمد على التضاريس الوعرة والدعم الشعبي.
الدرس الأكبر الذي لم تتعلمه واشنطن هو أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق النصر في حرب غير متكافئة. في فيتنام، استفاد الفيتكونغ من الغابات الكثيفة وحرب العصابات لاستنزاف القوات الأمريكية. في أفغانستان، استخدمت طالبان الجبال والوديان لتنفيذ هجمات خاطفة، مما جعل التفوق التكنولوجي الأمريكي عديم الفائدة.
العتاد الأمريكي - هدر المليارات وسقوط الأسطورة
أنفقت الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار على الحرب في أفغانستان، بما في ذلك تدريب وتجهيز الجيش الأفغاني. ومع ذلك، عندما انسحبت القوات الأمريكية، انهار الجيش الأفغاني في أيام، تاركاً وراءه معدات عسكرية بقيمة 7 مليارات دولار، بما في ذلك طائرات هليكوبتر ومركبات مصفحة وأسلحة متطورة. هذه المعدات، التي كانت تُعدّ رمزاً للتفوق العسكري الأمريكي، أصبحت الآن في أيدي طالبان، التي استخدمتها لتأكيد سيطرتها على البلاد.
هذا الفشل الذريع يعكس سوء التخطيط والاستراتيجية الأمريكية. فبدلاً من بناء جيش أفغاني قادر على الصمود، اعتمدت واشنطن على أعداد كبيرة من المعدات دون تدريب كافٍ أو ولاء حقيقي للدولة الأفغانية. النتيجة كانت كارثية: جيش بلا روح قتالية، ومعدات أصبحت هدية مجانية للعدو.
حرب العصابات والتضاريس - كيف هزم الأفغان الإمبراطورية؟
أفغانستان، المعروفة باسم "مقبرة الإمبراطوريات"، تتمتع بتضاريس وعرة جعلت من الصعب على القوات الأمريكية تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق. استفادت طالبان من هذه التضاريس، مستخدمةً حرب العصابات لاستنزاف القوات الأمريكية. اعتمدت الحركة على الكمائن والهجمات الانتحارية، مما جعل من الصعب على أمريكا تحقيق نصر حاسم.
بالإضافة إلى ذلك، استفادت طالبان من الدعم الشعبي في المناطق الريفية، حيث كانت الحكومة المركزية في كابل تعتبر فاسدة وغير شرعية. هذا الدعم الشعبي أعطى طالبان القدرة على الاختفاء بين السكان، مما جعل من الصعب على القوات الأمريكية تحديد أهدافها.
الخسائر البشرية - ثمن باهظ دفعه الجميع
دفع الأفغان ثمناً باهظاً لحرب لم يختاروها. وفقاً لتقديرات جامعة "براون"، قُتل أكثر من 176 ألف شخص في أفغانستان، بينهم 46 ألف مدني و69 ألف عسكري وشرطي، بالإضافة إلى 52 ألف مقاتل من طالبان. هذه الأرقام لا تعكس فقط الخسائر المباشرة، بل أيضاً الآثار طويلة الأمد للحرب، بما في ذلك النزوح الجماعي والفقر المدقع.
على الجانب الأمريكي، بلغ عدد القتلى أكثر من 2400 جندي، بالإضافة إلى آلاف المصابين نفسياً وجسدياً. هذه الخسائر لم تكن فقط نتيجة القتال المباشر، بل أيضاً بسبب المذابح التي ارتكبتها القوات الأمريكية ضد المدنيين.
المذابح الأمريكية - جرائم بحق الإنسانية
لم تكن الحرب في أفغانستان مجرد صراع عسكري، بل شهدت أيضاً انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ارتكبت القوات الأمريكية مذابح في قرى أفغانية، حيث استُهدف مدنيون أبرياء تحت ذريعة ملاحقة "الإرهابيين". أحد أشهر هذه الجرائم كانت مذبحة قندوز عام 2009، حيث قُتل عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال، في غارة جوية أمريكية.
هذه الجرائم، التي تم توثيق بعضها عبر مقاطع فيديو وصور، تُظهر الوجه القبيح للحرب. فبدلاً من أن تكون "قوة للخير"، كما تدّعي واشنطن، تحولت القوات الأمريكية إلى قوة قمعية لا تفرق بين المقاتلين والمدنيين.
طالبان والتعاون مع أمريكا - بين العقيدة والمصلحة
على الرغم من العداء التاريخي بين طالبان والولايات المتحدة، قررت الحركة في النهاية التماشي مع التعاون مع أمريكا بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية. هذا التعاون تجلى في المفاوضات الجارية لتبادل المعتقلين، حيث تسعى طالبان للإفراج عن سجناء أفغان في غوانتانامو مقابل إطلاق سراح أمريكيين محتجزين في أفغانستان.
وفقاً لتقارير، تشمل المفاوضات الإفراج عن محمد رحيم، أحد كبار قادة القاعدة السابقين، مقابل ثلاثة أمريكيين محتجزين في أفغانستان، بما فيهم ريان كوربيت وجورج غليزمان ومحمود حبيبي. هذه المفاوضات تعكس تحولاً في استراتيجية طالبان، التي تسعى الآن لتحقيق مصالحها عبر الدبلوماسية بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة .
الخلاف بين طالبان وباكستان - التحول نحو إيران
أدى التوتر المتزايد بين طالبان وباكستان إلى تحول الحركة نحو تعزيز علاقاتها مع إيران. باكستان، التي كانت تُعتبر الحليف التقليدي لطالبان، بدأت تفقد نفوذها في أفغانستان لصالح إيران. هذا التحول جاء نتيجة لعدة عوامل، بما في ذلك الدعم الإيراني لمشاريع اقتصادية مثل ميناء تشابهار، الذي يهدف إلى تعزيز التجارة بين أفغانستان وإيران والهند، مما يقلل من اعتماد أفغانستان على الموانئ الباكستانية .
إيران، من جهتها، استفادت من هذا التحول لتعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة بعد أن نجحت في إدارة العلاقة مع طالبان رغم التاريخ المتوتر بينهما. هذا التعاون الجديد بين طالبان وإيران يهدد بتقويض الدور الباكستاني في أفغانستان، مما قد يؤدي إلى تغييرات جيوسياسية كبيرة في المنطقة .
دروس من مقبرة الإمبراطوريات
فشل أمريكا في أفغانستان ليس مجرد هزيمة عسكرية، بل هو درس في حدود القوة العسكرية. لقد أثبتت أفغانستان، مثل فيتنام من قبلها، أن التفوق العسكري لا يكفي لتحقيق النصر في حرب غير متكافئة. بل إن التدخل العسكري، بدلاً من أن يحقق الاستقرار، غالباً ما يخلّف وراءه دماراً بشرياً واقتصادياً طويل الأمد.
ربما حان الوقت لأن تتعلم أمريكا من تاريخها، وتتوقف عن اعتبار القوة العسكرية حلاً لكل المشاكل. ففي النهاية، ليست الأسلحة هي التي تحقق النصر، بل الإرادة الشعبية والحكمة السياسية. وأفغانستان، كما فيتنام، تذكير قاسٍ بأن الإمبراطوريات تتعثر دائماً في مقبرة الشعوب.
المصادر العربية:
تقديرات جامعة براون حول الخسائر البشرية في أفغانستان
تم الاعتماد على تقرير جامعة براون الذي يوثق عدد القتلى والجرحى في الحرب الأفغانية، بما في ذلك المدنيين والعسكريين ومقاتلي طالبان.تقارير عن المفاوضات بين طالبان وأمريكا لتبادل الأسرى
تم الاستناد إلى تقارير إخبارية حول المفاوضات الجارية بين طالبان والولايات المتحدة للإفراج عن معتقلين في غوانتانامو مقابل إطلاق سراح مواطنين أمريكيين محتجزين في أفغانستان.مذبحة قندوز عام 2009
تم الاستشهاد بتقارير حقوقية وصحفية توثق مذبحة قندوز التي ارتكبتها القوات الأمريكية، والتي أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم نساء وأطفال.العلاقات بين طالبان وإيران وباكستان
تم الاعتماد على تحليلات جيوسياسية تتناول تدهور العلاقات بين طالبان وباكستان، وتعزيز التعاون بين طالبان وإيران، خاصة في مشاريع مثل ميناء تشابهار.
No comments:
Post a Comment